التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صدفة في ذكرى النكبة





بينما كاد الليل ينتصف ليعلن عن ولادة يوم جديد هو الخامس عشر من مايو 2020، كنت أقرأ في نهاية كتاب المؤلف المبدع رول دال Going solo، وللأمانة كلمة مبدع قليلة بحقه كما نقول باللهجة الفلسطينية، يكفيك أن ترى الأطفال وهم يلتهمون كتبه ويستمتعون بها أكثر من الفوشار والشكولاتة، أنا عن نفسي التهمت ثلاثة كتب ورميت كتب العلم والإدارة جانباً خلال الأيام الماضية.
هذا الكتاب Going solo هو الجزء الثاني الذي يحكي فيه قصصه الشخصية ويتحدث فيه عن مغامراته وهو في العشرينات أيام الحرب العالمية الثانية وعمله في شركة شيل ثم العمل كطيار مع سلاح الجو الملكي البريطاني المعروف ب RAF، وفي آخر الكتاب يتحدث عن وجوده في حيفا ولقاءه مع أحد اللاجئين اليهود من ألمانيا كما قال، ودار حوار بينهم ترجمته بتصرف:
سألته "هل هذه أرضك؟"
قال "ليس بعد"
"تقصد أنك تأمل في شرائها؟"
نظر إلي وصمت فترة وجيزة ثم قال: "الأرض في الوقت الحاضر مملوكة لمزارع فلسطيني لكنه أعطانا الإذن للعيش هنا وسمح لنا بزراعة بعض الحقول لنأكل منها "
سألته "ما هي خطتك المستقبلية أنت والأيتام معك؟"
ظهرت ابتسامته من خلال لحيته السوداء وقال: "لن نذهب إلى أي مكان، سنبقى هنا"
قلت: "أي ستصبحون فلسطينيين"
قال: "لا، لا أعتقد أننا سنصبح فلسطينيين"
قلت: "ماذا إذن؟"
قال: "أنت شاب طيار، ولا أتوقع منك أن تفهم مشاكلنا"
سألته: "ما هي مشاكلكم؟"
قال: "أنت لديك دولة تعيش فيها وتسمى إنجلترا، لذلك ليس لديك مشاكل"
  
استمر الحديث بينهما عن الحرب والقتال بين إنجلترا وألمانيا التي لم يكترث بها إلا قليلاً حسب وصف دال ثم اختتم الحديث بينهما بكلام صادم ...   
قلت: "تقصد اليهود ليس لديهم بلد؟"
قال: "هذا بالضبط ما أعنيه". "لقد حان الوقت أن يكون لدينا بلد"
قلت: “ولكن كيف ستحصلون على بلد؟" النرويج للنرويجيين ونيكاراغواللنيكاراغويين ، إنه نفس الشيء في كل مكان "
قال وهو يحتسي قهوته "سنرى" ...
قلت ببراعة: "إذا هزمنا هتلر ربما ستعطيكم إنجلترا ألمانيا".
قال: "لا نريد ألمانيا".
قلت: "ّإذن ما هي البلد التي تفكرون بها؟"
قال: "إذا كنت تريد شيئاً بهوس كبير فأنك ستحصل عليه دائماً "
رتب على ظهري وقال:" أنت بحاجة لتعلم الكثير يا فتى، أنت فتى طيب ، انطلق في حربك من أجل الحرية مثلي"

انتهى الحوار واختتم الكتاب واصفاً رحلته إل بيت أمه في إنجلترا حيث الأجواء ماطرة أيضاً بالقنابل الألمانية.
طبعاً اتهم دال بالعنصرية وأنه ضد السامية في مواطن عديدة رغم أنه كان دائماً يوضح أنه ضد الصهيونية وليس ضد اليهود، ولولا أنه كاتب كبير لضاع بين الرجلين.
وفي الختام أقول لا يوجد هناك صدفة، بل كله تقدير من العزيز القدير أن أنتهي من الكتاب دقائق قليلة قبل يوم ذكرى النكبة وأستيقظ لأكتب ما كتبت وأترجم ما كتب دال وأنشره هنا لأتذكر يافا أبي وقدس أمي وحيفا حماي وعكا حماتي، وأذكّر من قرأ هذه السطور بفلسطين كل فلسطين لأنها كما قال درويش: "كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين".


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسد الجريح

يهرول الأسد الجريح الى المجهول، تنطحه الحمير الوحشية، تسخر منه الغزلان، وتتذكر قصص شبابه الطيور وكيف كان زئيره يهز الصخور وتحترمه العقول وتهابه وحوش الغاب. شاخ وشاب في عالم مادي لا يرحم. اليوم لا بواكي له، تداعت عليه الأكلة ونهشت جسمه. تزداد هرولته بسرعة وخوفاً من المجهول، لقد جعله المنحدر أسرع رغم ضعفه ووهنه، سلّم للتعب واقترب من نهاية المنحدر حيث النسور تنتظره كمشروع جثة هامدة وعشاء ملوكي.         حاله ساء الضعيف فهو ناصر المظلومين وضابط الأخلاق ومقيم العدل، أصبح الهرج ملح الأيام في غيابه وتفككت البلاد وتنكر العباد. يزداد الكره والحسد والبغضاء وتسيل الدماء، في حين تتفجر الطاقات في الغوغاء، يتنطح الفاسدون ويتمختر المنافقون، يعوم على السطح الغثاء وتختفي الدرر في الأعماق.   لكن سنة الطبيعة أن تتغير وتتبدل، لا بد أن يطوف المرجان وتتفتح الأصداف. لا بد للأسد أن يزأر من جديد ما دام القلب ينبض بالحب، ستبعث الحياة وسينتشي الجسد من جديد فالفكر لا يموت ما دام في السطور والصدور. إنما نحتاج تطبيقاً عصرياً وابداعاً علمياً، تخطيط وتنظيم وإتقان،...

البكور : سر من أسرار النجاح

إذا كانت "افتح يا سمسم" كلمة السر لفتح كنز علي بابا ، فإن "السر" الذي سأذكره هنا ليس بمعناه الحرفي بل هو المفتاح الذهبي لأبواب الانجاز وتحقيق النتائج التي قد تتفوق على الاهداف أحياناً. إنه ببساطة "بركة البكور" ، البكور إلى العمل كموظف ، طالب ، تاجر ، كاتب ، ربة بيت ، أو حتى متقاعد. لن أسوق لكم أمثلة عالمية مثل تاتشروغيرها (أنظر المقالة هنا ) لكني سأخبركم عن تجربتي الشخصية المتواضعة إلى الآن ، أدام الله علينا وعليكم نعمة التوفيق في العمل والعائلة والمجتمع و تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ، (سامحوني الجملة المعترضة صارت خطبة جمعة :)  أستطيع ان أعزو جزء كبير من سبب تفوقي في المدرسة والجامعة والعمل الى اجتهادي و بدأ نشاطي اليومي مبكراً. لن أبالغ إن قلت أن الفعالية تكون ضعف الأوقات الأخرى ، وقد يختلف البعض في ساعة النشاط لهم كما يقولون ، لكني متأكد أنهم سيلاحظون فرقاً كبيراً إن جربوا ذلك بشرط أن يعيدوا برمجة أدمغتهم بحيث يتوقف حديث النفس بشكل سلبي مثل : " ما بعرف أشتغل الصبح " ، "بكون نعسان" ، "ما بعرف انام بدري" ، ...

سماء الضفدع

سأروي لكم قصة قصيرة تناولتها ثقافات عديدة أهمها وربما أصلها الصينية القديمة، إنها قصة ضفدع البئر لكني سأرويها لكم بصبغة عربية دون تحريف شديد إلا ما أجبرتني عليه خلجاتي وكلماتي فلغتنا العربية الجميلة تأبى إلا أن تجمّل المفردات.   عاش ضفدع طوال حياته في بئر سحيق كان يستمتع بحياته مستلقياً في القاع ينظر للسماء وزرقتها وجمال السحاب وهو يمر مشكلاً لوحات بيضاء سريعة وبطيئة مثل لحظات الحياة. كان هذا عالمه الذي تقوقع فيه وظن أن عيشته لوحده هي الأفضل والأمثل، حتى جاءت سلحفاة وأطلت عليه برأسها الصغير الذي غطى جزءاً كبيراً من الضوء من أعلى فلفتت انتباه الضفدع. قالت السلحفاة : "كيف أنت اليوم أيها الضفدع؟" رد عليها وقد نفخ أوداجه واخضر خضاره وقال: "أنا كما ترين أسبح في هذا الماء الراكد الساكن الهادئ أمتع ناظري في الموج الذي أفتعله على مزاجي وقدر حجمي وعندي من البيوت بعدد الحفر المنتشرة في جوانب البئر، أختبئ فيها من المطر وكلما ارتفع منسوب الماء اعتليت بيتا (حفرة) أعلى. طعامي كما تعلمين حشرات تائهة جذبها الماء الداكن ورائحته المعتقة، تعالي واستمتعي معي لأخبرك عن تجارب...