التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل ساوانا كورونا ؟





عندما وصت إلى أوروبا في 2003، بُهرت بأشياء كثيرة وأهمها استقرار الحياة، ربما بسبب مجيئي من فلسطين التي كانت تعاني اجتياح قوات الاحتلال ومنع التجوال. أذكر أني دخلت على موقع جامعة نوتنجهام وتفحصت رزنامة مواعيد العطل والدوام فتفاجأت أنها تبين مواعيد ثلاث سنوات قادمة! فقلت في نفسي ما أجمل الاستقرار في الحياة، حيث نخطط ونرسم ونتقدم بخطى واثقة! وحزنت على البلاد التي تفتقد ذلك بشدة.
 وهكذا ظلت الأرض مقسومة إلى قسمين لكن ليس كما يقسمها خط الاستواء، بل إلى استقرار ودمار، "وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا" ثم جاء كورونا وساوانا، بعد أن ظن قسم "الاستقرار" أنهم ملكوا الأرض ومن عليها ونفذوا إلى أقطار السماوات بسلطان. اجتاح كورونا العالم وبات كله يفتقد للاستقرار وأصبحت المدن العظيمة المكتظة خالية فجأة ومن غير ميعاد! تبخرت ملاين الخطط التنموية الرسمية والشخصية وتلخبطت المواعيد التي كانت تحسب بالدقيقة والثانية.
مشاعر مختلطة في كل البلاد، بعض القياديين المخلصين (مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية) تقدموا للمواجهة بكل شفافية ومسؤولية واستخدموا مناهج علمية، وآخرين تخبطوا أو تأخروا أو تنطحوا و"تنحوا" أو ظنوا أنهم سينجوا إذا أخفوا رؤوسهم مثل النعامات. أما العامة فهم في حيرة من هذه المفاجأة التي كانت بعيدة جداً وكانوا يتندرون عليها فالمسافة الملموسة لديهم مقياسها بيت قباني "من بيروت (أو بغداد كاظم) إلى الصين"، لكن تسارعت الأحداث والتصق الناس بهواتفهم وأصبحت وسائدهم، فكل يوم خبر أشد وطأة من الوباء نفسه، والوكالات الإخبارية والسوشيال ميديا تتلقفها كأنها أزهار وتجعل منها أشجار.
أغلقت المساجد واختفى الطواف عند الكعبة لأول مرة إلا من بعض الحمام وكذلك الكنائس والمعابد حول العالم، وتسارع الناس لشراء الحاجيات وخلت الرفوف في محلات لندن واصطف الناس في أمريكا ترامب لشراء السلاح. انحسر الناس وانحشروا في بيوتهم، أُسر انتهزت الفرصة لتوطد علاقتها مع أهلها ونظمت وقتها، وأخرى ظلت محبوسة في هواتفها فوق كروشها ولم تشعر بأي تغيير سوى زيادة في استهلاك القهوة والشاي. ذاب خط الاستواء و"استوى" استقرار البشرية بشكل مهول وبات المستقبل العالمي مجهول، حتى تنزاح هذه الغيمة، وإن تأخرت فسيكون الامتحان الحقيقي لإنسانية البشرية، فهل ستتظافر الشعوب والدول كما طالب مؤخراً مدير عام منظمة الصحة العالمية؟ أم سيديروا ظهورهم لبعضهم وتطغى "اللهم نفسي"؟ أم سيأكلوا بعضهم؟
نسأل الله أن تزول هذه المحنة عن الجميع وتكون عبرة للجميع أننا اخوة في الإنسانية، يساعد القوي الضعيف (فنصرنا بهم) ونعين بعضنا ونرفع الظلم عن المظلومين ونقيم العدل ولا نركن إلى الدنيا، ونخلص في أعمالنا وننصر الله في قلوبنا وبيوتنا قبل أن نذهب إلى مساجدنا.  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسد الجريح

يهرول الأسد الجريح الى المجهول، تنطحه الحمير الوحشية، تسخر منه الغزلان، وتتذكر قصص شبابه الطيور وكيف كان زئيره يهز الصخور وتحترمه العقول وتهابه وحوش الغاب. شاخ وشاب في عالم مادي لا يرحم. اليوم لا بواكي له، تداعت عليه الأكلة ونهشت جسمه. تزداد هرولته بسرعة وخوفاً من المجهول، لقد جعله المنحدر أسرع رغم ضعفه ووهنه، سلّم للتعب واقترب من نهاية المنحدر حيث النسور تنتظره كمشروع جثة هامدة وعشاء ملوكي.         حاله ساء الضعيف فهو ناصر المظلومين وضابط الأخلاق ومقيم العدل، أصبح الهرج ملح الأيام في غيابه وتفككت البلاد وتنكر العباد. يزداد الكره والحسد والبغضاء وتسيل الدماء، في حين تتفجر الطاقات في الغوغاء، يتنطح الفاسدون ويتمختر المنافقون، يعوم على السطح الغثاء وتختفي الدرر في الأعماق.   لكن سنة الطبيعة أن تتغير وتتبدل، لا بد أن يطوف المرجان وتتفتح الأصداف. لا بد للأسد أن يزأر من جديد ما دام القلب ينبض بالحب، ستبعث الحياة وسينتشي الجسد من جديد فالفكر لا يموت ما دام في السطور والصدور. إنما نحتاج تطبيقاً عصرياً وابداعاً علمياً، تخطيط وتنظيم وإتقان،...

البكور : سر من أسرار النجاح

إذا كانت "افتح يا سمسم" كلمة السر لفتح كنز علي بابا ، فإن "السر" الذي سأذكره هنا ليس بمعناه الحرفي بل هو المفتاح الذهبي لأبواب الانجاز وتحقيق النتائج التي قد تتفوق على الاهداف أحياناً. إنه ببساطة "بركة البكور" ، البكور إلى العمل كموظف ، طالب ، تاجر ، كاتب ، ربة بيت ، أو حتى متقاعد. لن أسوق لكم أمثلة عالمية مثل تاتشروغيرها (أنظر المقالة هنا ) لكني سأخبركم عن تجربتي الشخصية المتواضعة إلى الآن ، أدام الله علينا وعليكم نعمة التوفيق في العمل والعائلة والمجتمع و تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ، (سامحوني الجملة المعترضة صارت خطبة جمعة :)  أستطيع ان أعزو جزء كبير من سبب تفوقي في المدرسة والجامعة والعمل الى اجتهادي و بدأ نشاطي اليومي مبكراً. لن أبالغ إن قلت أن الفعالية تكون ضعف الأوقات الأخرى ، وقد يختلف البعض في ساعة النشاط لهم كما يقولون ، لكني متأكد أنهم سيلاحظون فرقاً كبيراً إن جربوا ذلك بشرط أن يعيدوا برمجة أدمغتهم بحيث يتوقف حديث النفس بشكل سلبي مثل : " ما بعرف أشتغل الصبح " ، "بكون نعسان" ، "ما بعرف انام بدري" ، ...

إذا هبت رياحك فاغتنمها

تمر علينا نفحات روحانية ونفسية وجسدية تمثل فرصاً للارتقاء والنقاء، ولأن القلوب تتقلب، التقطها كلما حانت واستمتع بها في لحظتها ولا تنتظر اللحظات القادمة وتخطط لها، فالعفوية طعمها أجمل.  إذا سمعت تلاوة جميلة ورقّ قلبك لا تغير المحطة وابحث عن اسم القارئ، شعرت بالمحتاجين وأنت تشاهد وثائقي تبرع عبر موبايلك مباشرة، طلب أبناءك أن تلعب معهم اترك ما في يدك (خصوصًا الموبايل) والعب معهم، تذكرت أنك لم تزر أهلك من مدة اذهب وصل رحمك أو حتى اتصل عليهم، عزمك أصدقاءك على لعبة كرة أو مشوار رياضي انطلق، سمعت بنشاط عائلي إبداعي اشتر تذكرة وفرح أبناءك، رأيت مهموماً شارد الذهن، تقدم إليه وواسيه لعلك تخفف عنه، فرصة للسفر ومغامرة مثيرة احجز أونلاين ، التقيت بشخص مميز تقدم وسلم عليه وتعرف عليه.   هذه أمثلة بسيطة لمواقف يومية عديدة تحتاج منا الإنصات والتربص باللحظات. فالحياة مثل الخفقات تصعد ثم تنزل، تتحرك ثم تسكن، وكما قال الإمام الشافعي المبدع (إن صح عنه): إذا هبت رياحك فاغتنمها         فعقبى كل خافقة سكون      ولا تغفل عن الإحسان فيها...