زحفت حليمة التي قوَست النكبة ظهرها مع صديقاتها التسعينيات من مخيم الجلزون إلى بير نبالا التي تكاد تكون قاب قوسين أو أدنى لكن الطريق مغلقة أمامهن، وصلت الحجات الثلاثة إلى منطقتهن وبحثن ولم يجدن شيئًا إلا البئر، جلست حليمة على "بير" بيتها وعيونها تلمع مثل النبال، تمسمرت مع صديقاتها ورفضن العودة، وحق لهن! لكن طارق البكري أخذ بأيديهن لمشاهدة البحر الذي عزَ على حليمة لأكثر من سبعين عامًا، بللت قدميها ويديها وثوبها النبالي المطرز ثم غادروا وأخذوا قلوبنا معهن كما في كل قصة ولدت من رحم مبادرة طارق "كنا وما زلنا"، التي شاركها معنا أمس في مسرح المكتبة الوطنية في الكويت، حيث تجسدت القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها في صور وحكايات قلبية وجلية، رغم تلألئ عيون الحاضرين الضبابية.
امتدت المحاضرة لأكثر من
ساعة لكنها مرت كدقائق، حيث كانت المشاعر تصعد وتهبط ثم تتنهد وتتفكر وتتألم ثم
تتأمل، فها هو أحمد الخالدي يأتي إلى عروس البحر لرؤية بيت جده الذي هجر في الحرب
يسمي ابنته يافا، وكيف ليافا أن تنسى يافا.
انسابت قصص طارق العديدة
كالجداول النقية لتسقي القضية، تلك الشجرة الثابت أصلها وفروعها في سماء كل بقاع العالم،
يكرر طارق بعض القصص حيث حل، مع تحديث دائم بقصة جديدة بعضها أثمر من المحاضرات
نفسها وتفاعل الحضور، ومع ذلك تدمع عين طارق متأثرًا وهو يروي القصة وكأنه يعيشها
مرة أخرى، فقد أصبح جزء من الحكاية والبيت والعائلة، مهجر مثلهم رغم أنه هنا، كان
وما زال، كما سماها بعد أن جمعنا كلنا. "كنا وما زلنا" مبادرة شخصية تطوعية
بسيطة في ظاهرها، لكنها تتفوق على مبادرات رسمية مليونيه كما قلت له على الملأ.
أدام الله شعلة عطاءك
يقظة كما أيقظتنا وسلطت الضوء على قضية ظن بعضهم أنها قضية منسية لا عودة إليها،
بل سنعود وستعود حبات تراب القرى والبلدات وأغصان الزيتون التي وزعها فريقكم في مخيمات
لبنان إلى مكانها من جديد وإن لم تكن مع أصحابها فمع أولادهم أو أحفادهم بإذن الله،
وسيخيب ظن ذلك الأجنبي الذي اعترف بسرقة بيت إدوار سعيد وتبجح أنه أصبح بيته
للأبد، فالحق لا يضيع ما دام وراءه يافا وحيفا وفلسطين وسمر وسحر ونادية وليلى
ومحمد ومحمود وخالد. كيف ينسى أطفال يشربون حليب العودة كل صباح ويفطرون على زعتر
الجبال الصامدة وزيت زيتونها المضيء.
تعليقات
إرسال تعليق