التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حتى لا نصبح مستخدَمين بؤساء

 


كنت في السابق أعتقد أن الروايات مضيعة للوقت والأفضل التركيز على الكتب المعرفية المفيدة، فمشاهدة فيلم مبني على رواية (بكفي وبوفي وتأخذ العبرة بساعتين وتمشي)، والفيلم مليء بالصور والمشاهد واللقطات والمشاعر التي يعجز  الكتاب عنها وهو لا يحتوي إلا كلمات مرصوفة بخطوط سوداء حبرية أو رقمية (في حالة الكندل)، وبالتالي لا حاجة لقراءة الرواية. لكني اكتشفت أن هذا التصور البرغماتي الظالم يهضم حق تحفة فنية وحياة موازية تدخلها كل ليلة لتعيش حقبة زمنية حقيقية أو خيالية تعيش فيها أدق التفاصيل وكأنك تجلس مع الشخصيات وتستمع إليهم وترتحل معهم وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم وتتعاطف معهم وتتمنى لو أنك تستطيع أن تتواصل معهم وأحيانا تود أن تساعدهم، فتضرب على يد روديون وتفسد خطته في رواية الجريمة والعقاب لتشوفيسكي، وتأخذ بيد فانتين قبل أن تغوص في الوحل أو تضرب تينارردييه وزوجته بحذائك في رواية البؤساء لفيكتور هوجو.

لا عجب أن أول كلمة نزلت من الوحي كانت اقرأ، فالقراءة مفتاح لكنوز لا تنضب، وقراءة الكتب بالتحديد في هذا الزمان خير دواء لعلاج الرييلز والشورتس والستوري والتكتوك، حيث تتنطط العيون وتتحرك الأصابع باحثة عن جديد سريع يغذي دوبامين لا يشبع بل يزداد جوعًا كلما أطعمته. لقد أثبتت الدراسات العلمية أن استخدام مواقع التواصل بكثافة قد تتسبب في الاكتئاب وتؤثر في جودة النوم وغيرها من الاضرار (طبعًا هذه الدراسات معظمها قبل ما تهجم الرييلز على الناس، أتوقع الوضع أسوء).

القراءة، كما تقول ريتا كارتر في مقدمة محاضرتها "التيدية" الجميلة (هنا) "لماذا القراءة مهمة؟"، توسع قدرتك على التخيل وتحسن ذاكرتك وتطور علاقاتك الشخصية وتجعل منك إنسانًا رائعًا، وذكرت ريتا الأبحاث العلمية المتعلقة بالدماغ والتي بينت فوائد القراءة وخصوصًا المرتبطة بالروايات وليس الكتب المعرفية، على أهميتها.

لا شك أن مواقع التواصل زاحمت أوقاتنا المتاحة للقراءة، ومن تجربتي الشخصية هذا الصيف لولا أني هجرتها لما قرأت رواية طويلة مثل البؤساء، هذه الرواية التي كنا نسمع عنها كثيرًا ونحن صغار وتأتينا في مجموعة الأسئلة العامة في المسابقات الثقافية، (تحذير: البؤساء تحتاج إلى قلب قوي وطول نفس لقراءة حوالي 1500 صفحة مليئة بالبؤس).

لكن هذا لا يعني أن ننهار ونستسلم كما قال أبو نواس "وداوني بالتي كانت هي الداء" قبل أن يهتدي رحمه الله. لا شك أن التخلي عن مواقع التواصل وغيرها من المنظومات المشابهة بالكامل صعب فهناك جيش من المهندسين، كما ذكر أحد مهندسي جوجل في لقاء قديم استمعت إليه على بودكاست، يعملون بجد ليحوزوا على اهتمامك وانتباهك مهما استطاعوا إليه سبيلا بحيث لا تضع الهاتف من يدك، ويصبح المستخدَمون "بؤساء" مدمنين، لاحظ عزيز القارئ كتبت "المستخدَمون" بفتح الدال وليس بكسرها فأنت بنظر هذه الشركات سلعة تستخدَم وليس مستخدِم كما خدعوك وقالوا (ما أجمل اللغة العربية وحركاتها). 

في النهاية أقول إن زيادة حصة القراءة (كتب وروايات مش مقالات) في برنامجنا اليومي (نعم لازم يومي)، سيؤدي إلى حصر الوقت المتاح في المفيد وتقليل الفراغ وسيحصل التوازن المنشود، الأمر ليس بالسهل وليس الناصح بأوعى من القارئ لكن نحاول وعندما نتذوق لذة القراءة أنا متأكد أننا سنتسمر، وإذا مش عشانكم عشان أولادكم، ودعواتكم :)

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسد الجريح

يهرول الأسد الجريح الى المجهول، تنطحه الحمير الوحشية، تسخر منه الغزلان، وتتذكر قصص شبابه الطيور وكيف كان زئيره يهز الصخور وتحترمه العقول وتهابه وحوش الغاب. شاخ وشاب في عالم مادي لا يرحم. اليوم لا بواكي له، تداعت عليه الأكلة ونهشت جسمه. تزداد هرولته بسرعة وخوفاً من المجهول، لقد جعله المنحدر أسرع رغم ضعفه ووهنه، سلّم للتعب واقترب من نهاية المنحدر حيث النسور تنتظره كمشروع جثة هامدة وعشاء ملوكي.         حاله ساء الضعيف فهو ناصر المظلومين وضابط الأخلاق ومقيم العدل، أصبح الهرج ملح الأيام في غيابه وتفككت البلاد وتنكر العباد. يزداد الكره والحسد والبغضاء وتسيل الدماء، في حين تتفجر الطاقات في الغوغاء، يتنطح الفاسدون ويتمختر المنافقون، يعوم على السطح الغثاء وتختفي الدرر في الأعماق.   لكن سنة الطبيعة أن تتغير وتتبدل، لا بد أن يطوف المرجان وتتفتح الأصداف. لا بد للأسد أن يزأر من جديد ما دام القلب ينبض بالحب، ستبعث الحياة وسينتشي الجسد من جديد فالفكر لا يموت ما دام في السطور والصدور. إنما نحتاج تطبيقاً عصرياً وابداعاً علمياً، تخطيط وتنظيم وإتقان،...

البكور : سر من أسرار النجاح

إذا كانت "افتح يا سمسم" كلمة السر لفتح كنز علي بابا ، فإن "السر" الذي سأذكره هنا ليس بمعناه الحرفي بل هو المفتاح الذهبي لأبواب الانجاز وتحقيق النتائج التي قد تتفوق على الاهداف أحياناً. إنه ببساطة "بركة البكور" ، البكور إلى العمل كموظف ، طالب ، تاجر ، كاتب ، ربة بيت ، أو حتى متقاعد. لن أسوق لكم أمثلة عالمية مثل تاتشروغيرها (أنظر المقالة هنا ) لكني سأخبركم عن تجربتي الشخصية المتواضعة إلى الآن ، أدام الله علينا وعليكم نعمة التوفيق في العمل والعائلة والمجتمع و تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ، (سامحوني الجملة المعترضة صارت خطبة جمعة :)  أستطيع ان أعزو جزء كبير من سبب تفوقي في المدرسة والجامعة والعمل الى اجتهادي و بدأ نشاطي اليومي مبكراً. لن أبالغ إن قلت أن الفعالية تكون ضعف الأوقات الأخرى ، وقد يختلف البعض في ساعة النشاط لهم كما يقولون ، لكني متأكد أنهم سيلاحظون فرقاً كبيراً إن جربوا ذلك بشرط أن يعيدوا برمجة أدمغتهم بحيث يتوقف حديث النفس بشكل سلبي مثل : " ما بعرف أشتغل الصبح " ، "بكون نعسان" ، "ما بعرف انام بدري" ، ...

إذا هبت رياحك فاغتنمها

تمر علينا نفحات روحانية ونفسية وجسدية تمثل فرصاً للارتقاء والنقاء، ولأن القلوب تتقلب، التقطها كلما حانت واستمتع بها في لحظتها ولا تنتظر اللحظات القادمة وتخطط لها، فالعفوية طعمها أجمل.  إذا سمعت تلاوة جميلة ورقّ قلبك لا تغير المحطة وابحث عن اسم القارئ، شعرت بالمحتاجين وأنت تشاهد وثائقي تبرع عبر موبايلك مباشرة، طلب أبناءك أن تلعب معهم اترك ما في يدك (خصوصًا الموبايل) والعب معهم، تذكرت أنك لم تزر أهلك من مدة اذهب وصل رحمك أو حتى اتصل عليهم، عزمك أصدقاءك على لعبة كرة أو مشوار رياضي انطلق، سمعت بنشاط عائلي إبداعي اشتر تذكرة وفرح أبناءك، رأيت مهموماً شارد الذهن، تقدم إليه وواسيه لعلك تخفف عنه، فرصة للسفر ومغامرة مثيرة احجز أونلاين ، التقيت بشخص مميز تقدم وسلم عليه وتعرف عليه.   هذه أمثلة بسيطة لمواقف يومية عديدة تحتاج منا الإنصات والتربص باللحظات. فالحياة مثل الخفقات تصعد ثم تنزل، تتحرك ثم تسكن، وكما قال الإمام الشافعي المبدع (إن صح عنه): إذا هبت رياحك فاغتنمها         فعقبى كل خافقة سكون      ولا تغفل عن الإحسان فيها...