التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اشتقنا إليه



نور بدأ في وسط صحراء جافة وقاحلة ، بدائية منسية ، لا ثروة  طبيعية ولا بشرية ، بل جاهلية وعنجهية مرصعة بثقافة مزرية ، إلا مجموعة من مكارم الأخلاق ولغة عربية غنية. توسع النور سريعاً وجذب إليه العقول الراقية والأخيار من البرية ، فوهبوا أنفسهم لفكرة طرية ، ثلة من الأولين شكلوا أزهاراً تجملت من كل الأطياف والأعراق والألوان كمجموعة فنية. اختراق عظيم للرسالة المحمدية ونعمة للبشرية لحماية الأرض والإنسانية ، وصل صيت عدلها ورفقها بالروح والجسد والعقل والمجتمع إلى أصقاع الأرض كلها ، ولا عجب فتلك منظومة تستمد مصدرها من قدرة الخالق الأزلية. 

إن ما يجري اليوم من أحداث أليمة يجعلنا نستذكر جانباً من سيرة رسولنا الكريم المليئة بالدروس الغنية ، وخصوصاً أسلوبه الراقي ولمحاته الزكية. كان قرآناً يمشي على الأرض ، تسمع قولاً وترى عملاً ، أمره حق ونهييه حق ، لكن أسلوبه كان ثوباً جميلاً وغلافاً معطراً يغلف تعاليمه بالحب واللين ، فترسل كالهدايا إلى الناس من حوله ، لتكون سنّة لمن حوله ، وتزرع في الأرض نماذج مشرقة تتناقلها الأجيال ولا ينتهي ثمرها، فها هو يلمَح في "ما بال أقوام ..." ليرشدهم دون أن يجرحهم أو يحرجهم ، وتعامله مع الأعرابي الجاهل بآداب المسجد ، ونصائحه إلى سفراءه أن يسّروا ولا تنفروا وبشّروا ولا تنفروا . أحاديثه في الرفق كثيرة وتطبيقه عملي كما علّمه الله الذي يحب الرفق في الأمر كله كما ذكر ، وذكّر " فبما رحمة من الله لنت لهم".

بطلٌ في كل الأحداث لكنه لا ينتقم لشخصه فقلبه نقي تقي، ثقافة قد تكون غريبة على ما نتعلمه اليوم من معظم القصص البطولية ، الحقيقية والخيالية ،القصيرة والطويلة ، والهولويدية والهندية، حيث يتأذى البطل أو أهله ثم يعود وينتقم. أما رسولنا فلم ينتقم ، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ، ولم يأذن بإطباق الأخشبين رغم ما حل به في الطائف من ضررين ، وكذلك مع من شدّه من رداءه ليعطيه مالاً ، بل حتى مع من وضع سيفه على عنقه يهدده قبل أن يبدل الله الحال ، فعفا عنه في الحال. بل إن رفقه تجاوز الانسان ، فطلب من عائشة أن ترفق ببعيرها وأخبرنا بقصة المرأة وحبس القطة ترهيباً وقصة سقاية الكلب ترغيباً. 

 لقد ضاق الناس ذرعاً هذه الايام بالجاهلية الجديدة التي تفوقت على الجاهلية العربية القديمة ، فقد كانوا يتقربون الى الله بالأصنام أما الآن فهم يتقربون الى الله بقتل الأنام. ما أحوجنا أن نستنهض قدوة وقيادة وريادة إنسان قدم للبشرية بذور حضارة مبنية على القيم النقية لا المنفعة المادية ومؤشراتها ال "جي دي بية" ، حيث البقاء للأقوى والفتات للضعفاء والفقراء. 

لقد تطورت البشرية علمياً وتقنياً وفنياً ، لكنها تدهورت إنسانياً وبكوكب الأرض والبيئة كارثياً ، فكما يقول جوجرج برناند شو :"ها قد تعلمنا كيف نحلق كالطيور ونغوص كالأسماك ، أما آن الآوان أن نتعلم كيف نعيش على الأرض بإنسانية" ، ويكفينا الحديث النبوي الذي يتفوق على كل معاني الاستدامة الارضيّة ، فهو مبني على مبدأ لا غاية متغيرة ، حيث قال صلى الله عليه و سلم: (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ). 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البكور : سر من أسرار النجاح

إذا كانت "افتح يا سمسم" كلمة السر لفتح كنز علي بابا ، فإن "السر" الذي سأذكره هنا ليس بمعناه الحرفي بل هو المفتاح الذهبي لأبواب الانجاز وتحقيق النتائج التي قد تتفوق على الاهداف أحياناً. إنه ببساطة "بركة البكور" ، البكور إلى العمل كموظف ، طالب ، تاجر ، كاتب ، ربة بيت ، أو حتى متقاعد. لن أسوق لكم أمثلة عالمية مثل تاتشروغيرها (أنظر المقالة هنا ) لكني سأخبركم عن تجربتي الشخصية المتواضعة إلى الآن ، أدام الله علينا وعليكم نعمة التوفيق في العمل والعائلة والمجتمع و تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ، (سامحوني الجملة المعترضة صارت خطبة جمعة :)  أستطيع ان أعزو جزء كبير من سبب تفوقي في المدرسة والجامعة والعمل الى اجتهادي و بدأ نشاطي اليومي مبكراً. لن أبالغ إن قلت أن الفعالية تكون ضعف الأوقات الأخرى ، وقد يختلف البعض في ساعة النشاط لهم كما يقولون ، لكني متأكد أنهم سيلاحظون فرقاً كبيراً إن جربوا ذلك بشرط أن يعيدوا برمجة أدمغتهم بحيث يتوقف حديث النفس بشكل سلبي مثل : " ما بعرف أشتغل الصبح " ، "بكون نعسان" ، "ما بعرف انام بدري" ، &q

الطنطورة

  الطفل: أبي الأب: نعم يا حبيبي! الطفل: أضمر في نفسي ولا أخبر أحدًا أحياناً ما يجول في خاطري في بعض الأمور الكبيرة! الأب: مثل ماذا يا عزيزي؟ الطفل: عذاب النار مثلاً الأب: أوووف، ما شاء الله عليك! فاجأتني! نعم أسال براحتك ولعلنا نفكر سوية في هذه الأمور الكبيرة، ماذا تريد أن تعرف عن عذاب النار؟ الطفل: أعتقد أنه عذاب صعب على الإنسان المسكين الأب: تعجبني صراحتك أحسنت، نعم صحيح إنه عذاب شديد أليم، ولأنك إنسان لطيف يا بني ربما لا تستطيع تخيل وجود أشرار في هذه الدنيا يستحقون مثل هذا العذاب!   الطفل: من هم هؤلاء الأشرار يا أبي! هل السارقين أشرار؟ وهل يستحقون هذا العذاب؟ الأب: بالنسبة للعذاب ومن يستحقه فهذا ليس شأننا يا بني، هذا شيء في الآخرة وربنا جل جلاله سيقرر من يستحق ولأي فترة؟ فهو العليم بكل التفاصيل وما حصل في حياة الناس الطفل: نعم صحيح لكنك لم تجبني ما طبيعة الأشرار الذين تعتقد أنهم يستحقون عذاب النار! الأب: أنت طفل ذكي وأعرف أنك لن تتركني حتى أجيبك مباشرة، لكني لن أفعل! أنت ما زلت إنسان طري ولطيف ولا أريد أن أشوه صورة الحياة أمامك لكن تخيل أن هناك أفراد تسببوا بقتل وتشريد وتعذيب الملاي

الأسد الجريح

يهرول الأسد الجريح الى المجهول، تنطحه الحمير الوحشية، تسخر منه الغزلان، وتتذكر قصص شبابه الطيور وكيف كان زئيره يهز الصخور وتحترمه العقول وتهابه وحوش الغاب. شاخ وشاب في عالم مادي لا يرحم. اليوم لا بواكي له، تداعت عليه الأكلة ونهشت جسمه. تزداد هرولته بسرعة وخوفاً من المجهول، لقد جعله المنحدر أسرع رغم ضعفه ووهنه، سلّم للتعب واقترب من نهاية المنحدر حيث النسور تنتظره كمشروع جثة هامدة وعشاء ملوكي.         حاله ساء الضعيف فهو ناصر المظلومين وضابط الأخلاق ومقيم العدل، أصبح الهرج ملح الأيام في غيابه وتفككت البلاد وتنكر العباد. يزداد الكره والحسد والبغضاء وتسيل الدماء، في حين تتفجر الطاقات في الغوغاء، يتنطح الفاسدون ويتمختر المنافقون، يعوم على السطح الغثاء وتختفي الدرر في الأعماق.   لكن سنة الطبيعة أن تتغير وتتبدل، لا بد أن يطوف المرجان وتتفتح الأصداف. لا بد للأسد أن يزأر من جديد ما دام القلب ينبض بالحب، ستبعث الحياة وسينتشي الجسد من جديد فالفكر لا يموت ما دام في السطور والصدور. إنما نحتاج تطبيقاً عصرياً وابداعاً علمياً، تخطيط وتنظيم وإتقان، لا فتور ولا كسل، صدق وأمل واخلاص وعمل.