التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وداعاً دكتور عبد الجواد







رحل عنا اليوم عالِم وإنسان دمث ووطني ، كان مثالاً لبلسم عربي ، يضمد الجروح بإشراقة وجهه الوردي ، وصل أعلى المراتب العلمية وكان من أوائل الباحثين في مجال تحلية المياه في الكويت ، لكنه كان متواضعاً وجميلاً ومرهف الحس والجسم ، ملأ رحيق طيبته وحنانه مكان العمل فكان ممره معطراً بالحب لا تمر من هناك إلا وترغب بالسلام عليه ، تجاوز السبعين وكأنها عنده عشرين ، فقد كان شعلة من النشاط يعمل وكأنه في بداية حياته المهنية ، لا يلتفت الى الأمور المادية بل يرى العمل عبادة ومرح وعلم وتعلم. غافل المرض تواضعه بحجة أنه تجاوز السبعين وعليه أن يرتاح ، لكنه دحره من أول مواجهة لكنها لم تكن بالضربة القاضية ، وعاد غضنفراً بجسد نحيل إلى معهد الأبحاث وكأن شيئاً لم يكن ، لم يقبل تهديد السرطان ووعيده بل ركله بكل احتقار متحدياً متمرداً متسلقاً لأعالي القمم ليعرّف لنا معنى علو الهمة عملياً وحرفياً.
رحل اللاجئ الفلسطيني الفرنسي وقد جمع الأنساب الشرقية والغربية لكنه كان دوماً عربياً رغم متانة نخاعه الفلسطيني الذي كان يهتز خلف أحشائه كلما تذكر الوطن الأبدي الذي هجره وأهله مجبرين منذ سنين كما حال الملايين ، إلا أننا لم نشعر بذلك الاهتزاز أبداً فلقد كانت رسالته دائماً خدمة الانسانية بعلمه وأدبه وحضوره الجلي أينما حل فالوطن عنده كان حيث حل.  
تلقينا خبر وفاته هذا الصباح فنزلت دموعنا دون أن تستأذننا ومرّ في لاحظات أمامنا شريط سريع من ذكرياتنا معه ، كلها ذكريات حلوة كطعم كعك العجوة المدور أو الحلقوم المربع أو الشوكلاته السمراء التي كان يوزعها كلما مررنا به و لو لثوان. 

عزاؤنا أن الناس توحدت على حبه من كل الأطياف والأجناس ، واتفقت على احترامه واحترافه ، كان يبتسم للجميع ويصافح ويمازح ، لا يستثني الصغير ولا الكبير ، يصلي معنا ويقدمنا و يدعو لنا ، يساعد القريب والغريب ، ويتعالى عن السفاسف ويدفع الشرور وهو مسرور، عرفه كل الموظفين من دائمين ومؤقتين ، مدراء وعلماء وباحثين ومهنيين و فنيين ، وخصوصاً العمال البسطاء من مزارعين وعمال نظافة ومراسلين ، فقد  كان يلقاهم صباح كل خميس فرداً فرداً لياخذوا نصيبهم من صدقة تعودوا عليها ، ومن كثرة عددهم كان احياناً يمازحهم فيسألهم :هل هذه المرة الثانية لك اليوم ! 
لقد أحب الدكتور محمود الكويت وأحبته ، كما أهلها،  فاحتضنته كأمه في معظم حياته وها هي اليوم تضمه في ترابها بعد مماته ، وهي فخورة به وبما قدم وأنجزعلى ترابها في حياته ،وها هم أبناؤها يتسابقون في "المآجرة" في دفنه وكأنهم اخوته من لحمه و دمه.
أما أمه البيولوجية الأبية فهي تغبطها اليوم وهي ترقب جنازته من بعيد وتتحسرعلى قضيتها وأنها لم تضمه يوماً (كغيره من أبناءها العلماء) في شبابه ، و ليس لها حظ في عناقه حتى في مماته ، لكن ما يسليها أنها أيضا فخورة بأمجاده. 
نسأل الله العلي العظيم أن يتغمده في رحمته و يغفر له و يتقبل منه ويسكنه فسيح جناته وأعظم الله أجرنا وأجركم جميعاً ، امين يا رب العالمين.

حسام عرمان 


٢٢/١١/٢٠١٦

تعليقات

  1. اخي الفاضل د حسام لقد المني سماع خبر وفاة اخونا الكبير وأبونا العلمي دكتور محمود ويحزنني انني لن أتمكن بعد الان من المرور بمكتبه لأشاركه الأخبار السعيدة او الاستشاره برأيه او التماس النصيحه وقت الشده !!! كلماتك التى خططتها هنا فعلا نبعت من القلب لتصل للقلب ، وصفته بدقه و لعلك عبرت بكلماتك العطره عما يجول بخاطرنا جميعا ممن عرفوا الدكتور و قضوا معه أوقاتا لن ينسوها أبدا ... شكرًا لك
    و عسى ان يرحم المولى القدير فقيدنا بواسع رحمته وان يسكنه فسيح جناته و ما لنا الا ان ندعوا له .

    ردحذف
  2. آمين ، بارك الله فيكي د فتوح ، اعظم الله اجركم و اجرنا

    ردحذف
  3. اللهم ارحم الدكتور محمود واغفر له ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب. دكتور محمود أفضاله علي كثيرة ودايما يعلمني ويشجعني ويساعدني ويزرع فيني حب العمل والامل.. تعلمت منه الكثير والكثير، من بعد ما تركنا الدكتور محمود والممر اصبح مظلما مهجورا مافيه حياة. ربي يرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى.

    ردحذف
  4. انا لله وانا اليه راجعون، لا يمكن لاحد عندما كان ينظر الى وجه الا ان ينظر الى وجه ضحوك كله امل ومفعم بالحياة، لكن كلمه اقولها للحق وللامانه عندما كنا نزوره بالمستشفى كانت باعينه حسرة على ايامه الاخير؟ اعطى الكثير الكثير فيكفى اعطى حياته وحبه وعلمه ..... اساقف هنا لان المزيد لن يبقيه معنا؟! رحمك الله رحمك الله رحمك الله.

    ردحذف
  5. كما ذكرت د. حسام مناقب د. محمود. لم نری الا الخير منه والاسلوب الراقي في التعامل والمهنية العالية. عملت مع د. محمود في عدة لجان وكان دائما ثابتا بمهنيته ومبادئة. لن أنسی وقفاته المشرفة وعسی ان يكون عمله في هذه الدنيا مرفعة له في الآخرة. رحمة الله عليه والله يرزقه جنة الفردوس من غير حساب ولا سابقة عذاب. آمين.

    ردحذف
  6. بارك الله فيكم جميعا و رحم الله فقيدنا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطنطورة

  الطفل: أبي الأب: نعم يا حبيبي! الطفل: أضمر في نفسي ولا أخبر أحدًا أحياناً ما يجول في خاطري في بعض الأمور الكبيرة! الأب: مثل ماذا يا عزيزي؟ الطفل: عذاب النار مثلاً الأب: أوووف، ما شاء الله عليك! فاجأتني! نعم أسال براحتك ولعلنا نفكر سوية في هذه الأمور الكبيرة، ماذا تريد أن تعرف عن عذاب النار؟ الطفل: أعتقد أنه عذاب صعب على الإنسان المسكين الأب: تعجبني صراحتك أحسنت، نعم صحيح إنه عذاب شديد أليم، ولأنك إنسان لطيف يا بني ربما لا تستطيع تخيل وجود أشرار في هذه الدنيا يستحقون مثل هذا العذاب!   الطفل: من هم هؤلاء الأشرار يا أبي! هل السارقين أشرار؟ وهل يستحقون هذا العذاب؟ الأب: بالنسبة للعذاب ومن يستحقه فهذا ليس شأننا يا بني، هذا شيء في الآخرة وربنا جل جلاله سيقرر من يستحق ولأي فترة؟ فهو العليم بكل التفاصيل وما حصل في حياة الناس الطفل: نعم صحيح لكنك لم تجبني ما طبيعة الأشرار الذين تعتقد أنهم يستحقون عذاب النار! الأب: أنت طفل ذكي وأعرف أنك لن تتركني حتى أجيبك مباشرة، لكني لن أفعل! أنت ما زلت إنسان طري ولطيف ولا أريد أن أشوه صورة الحياة أمامك لكن تخيل أن هناك أفراد تسببوا بقتل وتشريد وتعذيب الملاي

أثر الشاشة (تلفاز، موبايل، آيباد) على الأطفال – دراسات

  -           زيادة وقت الشاشة   يؤدي إلى انخفاض النشاط البدني وزيادة مؤشر كتلة الجسم وتقليل الوجبات العائلية معًا وقلة النوم عند الأطفال -           لا يستفيد الأطفال دون سن الثانية بشكل عام على الإطلاق من أي محتوى يعرض على الشاشة حتى البرامج المفيدة (فوق سنتين فقط يصبح مفيد) -           يمكن للأطفال تعلم كلمة جديدة بشكل أفضل شخصيًا أو عبر مكالمة فيديو تفاعلية، مقارنة بمشاهدة نفس الكلمة التي يتم نطقها بشكل سلبي على الشاشة. -           أدمغة الأطفال الصغار تتطور بسرعة، ويظل التفاعل مع الوالدين أمرًا بالغ الأهمية لتعلمهم. -           الكثير من وقت الشاشة يمكن أن يؤثر سلبياً على فهمه لعالمنا ثلاثي الأبعاد وتقليل الخيال الإبداعي -           استخدام وقت الشاشة للأطفال في سن المدرسة يقلل من مهارات الصور الذهنية   المصدر: صفحة المستقبل - بي بي سي

أوباما مرحلة وعدت !

الرئيس أوباما كان حديث الصحافة العالمية والمحطات العالمية وخصوصاً بعد خطابه الوداعي المؤثر الذي خاطب فيه العقل ولخص إنجازاته واستثار العاطفة وحذر شعبه ونصحهم وأظهر لمحة عائلية حتى أنه تأثر هو نفسه عندما تحدث عن زوجته وبناته. شاهدت خطابه بالكامل واستمتعت به كالعادة لأني كنت في فترة معينة مولع بموضوع أساليب التقديم و فن الخطابة  presentation and public speaking   فهو مدرسة تتعلم منها أصول وفن الخطابة والالقاء  ومسلي تماماً كمشاهدة مبارة كرة قدم. لا شك أن أوباما كان ناجحاً بكل المقاييس بالنسبة للأمريكيين، هذا حسب كلام معظم المحللين وقد حدثني عن ذلك أحد المستشاريين العلميين الأمريكيين الذين عملت معهم. صحيح أن المنطقة العربية لم تستفد من أوباما رغم أمنيات العرب الطموحة بعد سماع خطابه الملهم والمشهور في القاهرة وتفائلنا كثيراً حينها، فكلامه الساحر كان ينساب كالعصا السحرية تغشى وجوه الشياب قبل الشباب، لكن كما نعلم أنه لم يقدم شيء وهذا طبيعي (و مين قال أنه عليه ضربة لازم ، دخلك هو رئيسنا ولا رئيسهم ! أم أننا نتعلق في القشة التي قسمت ظهر البعير).  أوباما كان رئيس استثنائي وعالمي،