التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التفكير قد يحدث التغيير




في أحد الأيام الصيفية اللندنية الجميلة قبل بضع سنين كان يساورني الحنين ويجادلني الأنين والحاجة الى التفكير مع بعض الترانيم، ترانيم الكتاب والطبيعة فخلوت الى مكان عام وواسع لا يصلح لان يكون خلوة إلا أن تكون في داخل كتاب ، كان ذلك في حديقة ريجنتس بارك حيث الماء و الخضراء والوجه الحسن، خرجت وحدي وأخذت معي الكندل و فيها رواية واحدة مع كثير من الكتب ، كانت تلك الرواية الخيميائي التي سمعت بها كثيراً و أردت قراءتها منذ زمن لكني لا أقرأ الروايات إلا ما ندر، رغم أني أحبها لكن فطرتي الهندسية بمقاييسها التي تعتمد الفاعلية و الانتاجية تستبعد الاعمال الروائية من أي خطط اسبوعية أو قراءات يومية لمصلحة الكتب الهندسية والإدارية والعلمية.

قضيت معظم النهار في ذلك اليوم منكباً أقرأ دون توقف فقرأت معظم الرواية دون أن أشعر بمن حولي من مشاة تكلموا اللغة الاسبانية والفرنسية والعربية والعبرية بالإضافة إلى الإنجليزية، ولم يجلس بجانبي أحد رغم أني أعتقدت ذلك عندما وصلت إلى الفقرة التي يتحدث فيها باولو كويلو عن لقاء الفتى بالعجوز، فلقد فكرت بذلك بشدة ربما بسبب حاجتي لحكيم حينها يلهمني وكان ذلك السيناريو يدور في ذهني بقوة وكأني أسمعه يحدثني فنظرت إلى جانبي لكني لم أجده، ضحكت حينها من نفسي وتصوراتها الغريبة وكأن التفكير بالشيء وحده كفيل بأن يصنعه، وبينما كنت أتقلب ذات اليمين وذات الشمال حتى لا أتيبس من الجلوس، نظرت يميناً وإذا بعجوز يجلس قربي، تحركت جوارحي بشكل ملحوظ وتنفست ابتساماتي وبانت على وجهي وانتظرته ليسألني أو يكلمني كما في الرواية ، فإيماني بقوة التفكير عاد وتعزز من جديد، لكنه سرعان ما تبخر فلقد تركني العجوز بهدوء محطما تخيلاتي واندماجي المجنون بالرواية ، لا أعرف لماذا ترك جواري ؟ ربما شعر بانفعالاتي وحركة جوارحي وابتساماتي أو مظهري الشرقي الإرهابي ، رغم أن لحيتي حينها كانت خفيفة وكأنها دهان أسود رش على وجهي باحتراف دون أن يلطخني أو يوسخني.         


رضيت "بالمكتوب" وزغرد إحساسي الهندسي أن الروايات ما هي إلا خزعبلات تفسد العقل وتشتت تأملاته لكني أكملت القراءة لإيماني بأن الإحساس الداخلي هو مصدر الإلهام والإبداع وظللت مؤمناً أن الإنسان بالتفكير وحده قد يصنع التغيير.


تجاوزت المرحلة التي يلتقي فيها العجوز بالفتى وأكملت القراءة إلا أن قلبي ظل متوقفاً عند ذلك المقطع منتظراً العجوز ليحاوره ويسمع منه، وما هي إلا لحظات حتى جاء العجوز الحقيقي فجلس وبدا عليه الاستعجال في الحديث إلي، فغمرتني حينها سعادة انتصار التفكير وإنجاز المصير. طلب مني أن آخذ له بعض الصور باستخدام آيباده ذلك الجهاز ذا الشاشة الكبيرة فيبدو أنه أحن على عيونه من الكاميرات والموبايلات. جلس الى جواري وانطلقنا بالحديث (أو بالأحرى انطلق هو) فحدثني الطبيب الباكستاني عن حياته وأهله وسفره وترحاله وعدم انتهاء مسيرته في أمريكا بتقاعده فها هو يؤسس جمعية يجمع فيها أمهر الأطباء في أمريكا ويذهبوا لعلاج الفقراء مجاناً في الدول الفقيرة، فتعجبت من وفاء هؤلاء الأطباء وإنسانيتهم فأنا أعرف أيضاً مجموعة مشابهة من الأصدقاء من الاطباء المتقاعدين في بريطاني كنت أدرسهم اللغة العربية.  


غادر العجوز وتبادلنا العناوين وعدت إلى كتابي أقرأ بإيجابية أكثر وقناعة أكبر بأن التفكير عنصر مهم في الإنجاز والتغيير، رغم أنه لا يظهر بالعيان فهو غير محسوس ولذلك يستقل الناس بأثره لعمق معناه، نشعر به من خلال سحره أحيانا كما حدث معي أو من خلال قوة محركه الداخلية التي يدفع فيها الحواس لتحرك الجوارح لتعمل فيصبح سلوكاً وانجازاً على أرض الواقع.


هذه هي المعادلة الطبيعية بالتسلسل الصحيح (أفكار – أحاسيس - أفعال)، لأن السبب الجذري لأي حالة هو الأفكار وبالتالي لا بد أن تكون شغلنا الشاغل في جعلها إيجابية وعدم السماح للأفعال والمشاعر التصدر والتقدم فتكون كالعربة أمام الحصان لأنها ستعطل مسيرتنا في تحقيق أهدافنا وسعادتنا بل صحتنا البدنية والذهنية كما بينت بعض الدراسات. إذن هيا نفكر ونتخيل أكثر فإما أن ينجح سحر التفكير لوحده (إن آمنا به) أو يكون حافزاً لنا بعدها لأن نتحرك بمشاعر إيجابية تخمرت بتفكير عميق.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البكور : سر من أسرار النجاح

إذا كانت "افتح يا سمسم" كلمة السر لفتح كنز علي بابا ، فإن "السر" الذي سأذكره هنا ليس بمعناه الحرفي بل هو المفتاح الذهبي لأبواب الانجاز وتحقيق النتائج التي قد تتفوق على الاهداف أحياناً. إنه ببساطة "بركة البكور" ، البكور إلى العمل كموظف ، طالب ، تاجر ، كاتب ، ربة بيت ، أو حتى متقاعد. لن أسوق لكم أمثلة عالمية مثل تاتشروغيرها (أنظر المقالة هنا ) لكني سأخبركم عن تجربتي الشخصية المتواضعة إلى الآن ، أدام الله علينا وعليكم نعمة التوفيق في العمل والعائلة والمجتمع و تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ، (سامحوني الجملة المعترضة صارت خطبة جمعة :)  أستطيع ان أعزو جزء كبير من سبب تفوقي في المدرسة والجامعة والعمل الى اجتهادي و بدأ نشاطي اليومي مبكراً. لن أبالغ إن قلت أن الفعالية تكون ضعف الأوقات الأخرى ، وقد يختلف البعض في ساعة النشاط لهم كما يقولون ، لكني متأكد أنهم سيلاحظون فرقاً كبيراً إن جربوا ذلك بشرط أن يعيدوا برمجة أدمغتهم بحيث يتوقف حديث النفس بشكل سلبي مثل : " ما بعرف أشتغل الصبح " ، "بكون نعسان" ، "ما بعرف انام بدري" ، ...

الأسد الجريح

يهرول الأسد الجريح الى المجهول، تنطحه الحمير الوحشية، تسخر منه الغزلان، وتتذكر قصص شبابه الطيور وكيف كان زئيره يهز الصخور وتحترمه العقول وتهابه وحوش الغاب. شاخ وشاب في عالم مادي لا يرحم. اليوم لا بواكي له، تداعت عليه الأكلة ونهشت جسمه. تزداد هرولته بسرعة وخوفاً من المجهول، لقد جعله المنحدر أسرع رغم ضعفه ووهنه، سلّم للتعب واقترب من نهاية المنحدر حيث النسور تنتظره كمشروع جثة هامدة وعشاء ملوكي.         حاله ساء الضعيف فهو ناصر المظلومين وضابط الأخلاق ومقيم العدل، أصبح الهرج ملح الأيام في غيابه وتفككت البلاد وتنكر العباد. يزداد الكره والحسد والبغضاء وتسيل الدماء، في حين تتفجر الطاقات في الغوغاء، يتنطح الفاسدون ويتمختر المنافقون، يعوم على السطح الغثاء وتختفي الدرر في الأعماق.   لكن سنة الطبيعة أن تتغير وتتبدل، لا بد أن يطوف المرجان وتتفتح الأصداف. لا بد للأسد أن يزأر من جديد ما دام القلب ينبض بالحب، ستبعث الحياة وسينتشي الجسد من جديد فالفكر لا يموت ما دام في السطور والصدور. إنما نحتاج تطبيقاً عصرياً وابداعاً علمياً، تخطيط وتنظيم وإتقان،...

إذا هبت رياحك فاغتنمها

تمر علينا نفحات روحانية ونفسية وجسدية تمثل فرصاً للارتقاء والنقاء، ولأن القلوب تتقلب، التقطها كلما حانت واستمتع بها في لحظتها ولا تنتظر اللحظات القادمة وتخطط لها، فالعفوية طعمها أجمل.  إذا سمعت تلاوة جميلة ورقّ قلبك لا تغير المحطة وابحث عن اسم القارئ، شعرت بالمحتاجين وأنت تشاهد وثائقي تبرع عبر موبايلك مباشرة، طلب أبناءك أن تلعب معهم اترك ما في يدك (خصوصًا الموبايل) والعب معهم، تذكرت أنك لم تزر أهلك من مدة اذهب وصل رحمك أو حتى اتصل عليهم، عزمك أصدقاءك على لعبة كرة أو مشوار رياضي انطلق، سمعت بنشاط عائلي إبداعي اشتر تذكرة وفرح أبناءك، رأيت مهموماً شارد الذهن، تقدم إليه وواسيه لعلك تخفف عنه، فرصة للسفر ومغامرة مثيرة احجز أونلاين ، التقيت بشخص مميز تقدم وسلم عليه وتعرف عليه.   هذه أمثلة بسيطة لمواقف يومية عديدة تحتاج منا الإنصات والتربص باللحظات. فالحياة مثل الخفقات تصعد ثم تنزل، تتحرك ثم تسكن، وكما قال الإمام الشافعي المبدع (إن صح عنه): إذا هبت رياحك فاغتنمها         فعقبى كل خافقة سكون      ولا تغفل عن الإحسان فيها...